كان العشم أكبر

يحدثُ أن تُلقي في قلبكَ الحياةُ من إذا غابَ استُفقِد، وإذا عَبسَ استُبسِم، وإذا أخذَ على خاطرهِ استُرضِي، وإذا قَطعَ وُصِل.. ثم يَحدثُ أن تراودكَ الشكوكُ حولَ مكانِكَ عنده؛ فتدفعكَ لغيابٍ أنت تكرهه ولا تطيقه.. تبدأُ بعَدِّ الليالي من تاريخ غيابكَ المُصطنع قبل أن تخلدَ إلى النومِ في كُلّ ليلة، ولا يخلو هذا الطقس الدخيل من أسئلةٍ تُلحّ عليكَ كقطة.. أسئلةٌ من قبيل: متى سيشعرُ بالغياب؟ ماذا لو طالَ العهدُ بهِ ولم يَسأل أو يَستفقد؟
تمضي الأيام وأنتَ تُدافعُ شكوككَ -التي بدأتْ تتحول إلى يقين- بأملٍ طفوليٍّ أن الوصلَ آت.. 
فلا تزال هذه القطيعةُ بك حتى تتراءى لكَ صداقتكما كأنها بُستانٌ كُنتَ أنت مُتعهّدهُ الوحيدَ بالري.. يبدأ البستان بالجفاف، وتَكثرُ فيه الأشواك التي تُدميكَ كلما أتيتَ تستفقدُه، لعل الغائبَ المُنتظَر تَذكّرَ العهدَ القديم به..
تُدركَ أن الوقت بدأ يُصبحُ مُتؤخرًا للوصل.. مع إدراكك المُرّ هذا تُحسّ بمشاعركَ كُلها تختلطُ وتتداخل، وينتجُ عنها شعورٌ عميق جدًّا بالعتاب.. يتسرب هذا العتابُ إلى زوايا روحك، ويُزاحم كل ذكرياتك القديمة التي لطالما كنت تطارد بها الضوء كلما أظلمت حولك الدنيا..
حتى يموتَ البستانُ، بستانُك.. وتُصبح أرضُهُ اليبابُ ذكرىً يُحرّضُ شوقكَ خاطرُ الريحِ كلما سرى بها..

*** 

“كان العشم أكبر” بهذه العبارة يختصر العم طلال مداح هذه الملحمة النفسية الداخلية.. والعَشَم في لغة العرب هو الأمل أو الطمع في الشخص من باب الحب أو حُسن الظن..
ككل الخيبات المرتبطة بعلَاقاتنا أيًّا كان نوعها، العشم هو أصل الألم في أغلبها، إن لم يكن جميعها..
طلال يبدأ أغنيته بسؤالين، تُحس بعتابه يتصاعد مع كل كلمة: “ما تقول لنا صاحب؟ فينُه زمان غايب؟ نسأل عليه واجب”.. حتى ينتهي بالعبارة التي يختتم بها كل كوبليهات الأغنية: “كان العشم أكبر”.. والله لو تُرك لهذه الجُملة أن تُغنِّي نفسَها، لما أحسنَت كما فعل طلال إليها هنا.. العتاب الذي تتصاعد وتيرته بالبداية، ينتهي بعتابٍ مستسلم، عتاب متؤلم، عتاب حزين.. “أَلَا كان العشم أكبر”..
وحدهُ طلال قادرٌ على أن يختزلَ ملاحمَنا الداخلية بجُملة واحدة.. لهذا السبب تحديدًا نقول أن طلال لم يُغنّ يومًا لنسمعه فقط، طلال غنّى ليستعير كل مشاعرنا ويُعبّرَ لنا عنها، نحن نفهم أنفسنا أكثر عندما نسمع لطلال.. لهذا السبب تحديدًا نقول أنه صوت الأرض..
رحمةُ الله عليك يا طلال..
.
.
.

لسبب ما هذا التسجيل هو الأقرب إلى قلبي

3 Replies to “كان العشم أكبر”

أضف تعليق