“اليوم هو الرابع عشر من أبريل..
لقد مضى يومان على لقائنا الحلو يا عزيزتي.. أو ربما يجب أن أقول أنه قد مضى يومٌ وأربعة عشر ساعة على وجه التحديد.. واسمحيلي أن أكون دقيقًا أكثر في وصفي للوقت والمكان.. التقينا في مكاننا المعتاد بعد ظهيرة يومٍ مشمس لم يكن يوحِ بأن أمرًا حُلوًا على وشك أن يحدث.. لم أجد في قاموسي سوى كلمة حُلو لأصف ما حدث.. كُلّ ما حدث.. بتفاصيله جميعها.. دِقّها وجُلّها.. ما أُعلنَ منهُ وما أُسرّ متروكًا للعيون لتفهمه وتفسره كما تُحب.. لقد كان حُلوًا وسريعًا.. كسُكّرةٍ تذوب في الفم بسرعة..
لا أريد أن أتوقف لأقرأ ما كتبت أو أفكر فيما أكتب .. أريد أن أكتب فقط يا مريمة.. أريد لكل هذا أن يخرج من صدري وينكب على الورق.. ولو أني أعرف يقينًا أن لغتي لن تتسع لتحمل كل ما في داخلي، ولا أعرف إن كانت لغةُ البشرِ على أي حال قادرةً على حمله..
لذا قبل أن تبدأَ بالتفلت من ذاكرتي المهترئة كذاكرة قطة أو بعوضة، دعيني أحكي القصة كما كانت.. قصةُ الفتاةِ التي تُرسلُ من عينيها نوعًا غريبًا من السحر..
لقد كان لقائنا يسيرُ كما كان مقدرًا له السير، لا شيئ خارجا عما توقعت.. “ربما كان عليك افتتاح النص بهذه الجملة” “ماذا لو قُمتِ بإضافة مثالٍ آخر على النقطة الثانية؟” “لقد أحببت ما قلتهِ هنا،إنه تعليقٌ ذكيّ!” إلى آخر كل هذا..
لا شيء غير طبيعي حتى الآن.. الأمور تمشي على ما يُرام.. القليل من السكوت هنا وهناك.. لن أُنكر أنه كان من الصعب مجاراتك في كل ما تطرحينه.. لقد كان لك عينان مُصرتان جدا في كل ما تقولانه.. أحيانًا كان من الصعب النظر فيهما من غير أن أحسّ بنوع من الارتباك أو تسارع في نبضات القلب.. وحق المصحف أني أكاد لا أصدق أني أكتب كلامًا كهذا.. أنا سفيان، سيدُ نفسي والآمر الناهي فيما تريد وما لا تريد، أُقرُّ بأن فتاةً من أرض الأزقة، استطاعت بشكل ما أن تُرسل من عينيها نوعًا غريبًا من السحر لتُربكَ به الفتى الذي، في يومٍ من الأيام، وُصفَ بأنه يعرفُ كُلَّ شيء.
لكن على كل حال.. لم يكن هذا كله مما لم أتوقع.. هذا كله طبيعي.. سيكون من غير المنطقي أن أمشيَ إليك من غير أن أتوقع أنني سأرتبك ولو لبضع ثوان.. بَلى.. من جرب الكي لا ينسى مواجعه..
لقد ذكرتِ لي أنكِ تستمعين لموتزارت.. لا أعرف كيف وصل بنا الحديث إلى هنا.. حدثتكِ عن أن سيدي يسخر مني عندما أستمع للموسيقى الكلاسيكية، يقول لي أنها لا تلمسني، وأنني أحمل نفسي عليها.. لا أعرف لماذا أحدِّثُكِ عن سيدي أيضًا، فأنا لا أحدث إلا قليلًا من المقربين عنه..
الحق أنه راودني شعورٌ طفولي لم يرد لحديثنا هذا أن يتوقف.. شعورٌ دام للحظاتٍ، وما إن تفطنت له حتى زجرت نفسي عنه..
أكملنا بعدها الحديث.. وانتهى نقاشنا الذي اجتمعنا من أجله..
لكن اللقاء ضلّ يمضي.. فالفتاة صاحبة العينان اللتان تطلقان نوعًا غريبًا من السحر لتُربك به الفتى الذي يعرف كل شيء، لم تنته بعد.. والعينان اللتان كان يكفي النظر إليهما حتى يرتبك قلبُ الفتى سفيان، أصبحتا جُزءًا من لوحةٍ كاملة.. لوحة ترسمها هذه الفتاة بشفتيها، لتنطقَ بما لم يجرؤ أحدٌ من أرض الأزقة إلى تلك اللحظة على قوله.. لقد قالت لي أنني أستحق الثناء، أنني تركت بصمةً في مكان ما، أن الناس من حولي يتحدثون عما أكتبُ بحُسن، أنها تحفظ النصوص التي أكتبها عن ظهر قلب..
يرتبك الفتى الذي يعرف كل شيء.. يرتبك جدا.. يعرف أنه لا يستطيع الرد على كل هذا أيا كان مصدره.. فكيف إذا جاء مع كل هذا السحر والفتنة..
يهرع إلى قواميسه ومعاجم أفكاره، يبحث مُسرعًا عن أي ما قد يسندُ ارتباكه هذا أولًا، ثم يردّ به على هذه اللوحة متكاملة الحسنِ ثانيًا..
لا يجدُ شيئًا.. كان يعرف في قرارةِ نفسه أنه لن يجد شيئًا منذ البداية..
ينظرُ الفتى في عينيها، يستجمع كل ما قد أورثته الحياة وتجاربها من حكمة، ويقول لها: أظن أنني أعرف كيف أحكي قصة، هذا كل ما في الأمر صدقيني.. ثم يصمت قليلًا ويطيل النظر في عينيها وهو يهمس لنفسه: وأظن أنني للتو قد وجدت ما ينقص قصتي لتكتمل”
***
– كما جرت العادة، لا أود الحديث عن الرسائل ومحتواها، مفهوم؟
– ولكن كأنني لمحتُ أن تاريخ الإرسال متأخرٌ عن تاريخ الرسالة بكثير!
– وهل ظننت أني أُرسلُ مثل هذه الرسالة قبل أقل من نصف سنة من التفكير؟!
