طبعٌ أم تطبّع؟

كُنت طفلا هادئًا جدا. هادئًا لدرجةِ أن أبي وأمي كانو يُرسلون بالحكايا إلى أقاربنا يُخبرونهم أنهم بخير وأن عندهم في البيت مخلوقًا هادئًا جدا لا يكادُ يُسمع له حس، ليردوا هم بنعتي ب”عاقل”. وقد لا يخفى عليك أن العاقل في لسان أهل الشام هو الهادئ قليل الكلام الذي يَغلبُ على طبعه تركُ الأذى ومواطنه. ومما قد لا يخفى عليك أيضًا أن الهدوء هذا طبعٌ عندي لم أتطبّعه ولم أحمل نفسي عليه، والطبعُ الذي لا تتطبعه اختيارًا وإنما تجد نفسكَ مجبولة عليه: باقٍ فيك ما بقيت الأرضُ تدور دورتها.. قُصارى جُهدك أن تخالطه بطبعٍ جديدٍ يزاحمه فيخفّ بهذا طبعكَ القديم، فليسَ الأخير بذاهب عنك أو تاركك. ولما بدأتُ أجدُ في نفسي ضيقًا من هذا الهدوء، خصوصًا عندما يأتي على ذكرهِ في المجالس الشيوخ والأساتذة، صرتُ أخلطهُ بالكلام الذي أحسه حسنًا، أتكلم فقط عندما أحس للكلام ضرورة أو فائدة، وأًصمت وأُنصت في غيرهم. حتى كان يُقَرّعني على هذا الصمت بشكلٍ غيرِ مباشر أحد شيوخي الأفاضل، فيقول عندما يَكثرُ حديث أحد الرفاق: “يا فلان يا ريتك إنت اللي بتسكت وعدي اللي بيسمعنا صوته”.. ولا يتبادرنّ لذهنك أنني لا آتِي على مواضعٍ يكون فيها الصمت خير، فأتحدث وأجلبُ كل أنواع الأعياد، وأصول وأجول في أرض كان خيرًا لي لو أنني أغلقتُ فمي فيها. لكنني أحمد الله أن أغلب هذا يكون مع أهلي. ثم أحمده على أن لأبي حِلمًا وسعةِ صدرٍ لو وُزعت على أهل الأرض لكفتهم.. طالَ بِي العهدُ وأنا أحاول أن أخرج عن هذا الهدوء عندما يكون الخروج خيرًا.. كُنت أخرج فأصيب مرةً وأُخطئ عشرًا، وكان أبي يطيل معي الصبر ويريقُ من جميل حلمهِ علي، فصرتُ أخرجُ أصيبُ أكثرَ مما أُخطئ.. وعليهِ ترتب أنني عندما أخطئ أقسو على نفسي كثيرًا وأقرعها بصمتٍ طويلٍ بعدها، فهذا أسهلُ بكثيرٍ من الكلام عندي.. ولا يمرّ وقتٌ حتى أتنبه إلى أنني قد عاد بي الطريق إلى طبعي الذي أرتاح إليه، فأعود أكشط نتوء العادة وأهذب نفسيَ الشقية.. “والنفسُ كالطفل إن تتركهُ شبَّ على ** حُبّ الرضاع، وإن تفطمه ينفطمِ”

حليّ بالمرء أن يَقِرَ هذا في قلبهِ صغيرًا حتى يعرف نفسه، فيسهلُ له تهذيبها ولا يحملها على ما لا تطيق. أقول هذا وأدعي، والله أعلم، أن غاية كتب تطوير الذات -وقد قرأتُ جمعًا غفيرًا منها- والهراء الذي تسمعه في هذا الباب قد يُجمع كله تحت قولٍ واحد يكون فيه جواب السائلين ومقصد التائهين: وهو أن قُصارى جهدك أن تعرف نفسك، أن تعرفها جيدًا، وتُدافعَ طباعها السيئة بأخرى حسنة، وأن تُطيل في هذا المقصدِ الوقتَ والجهد إلى أن يحصل لك مُرادك. حتى إذا كثر فيك الخير، طغى كثيره على القليل من غيره، وتَطَبّعتَ بالحسن من الطباع لِزامًا. أقول تطبعت بالخط العريض لأعود فأذكرك أنه تطبع، وأنك لستَ بهاربٍ مما كان فيك، وأنك يا حبيبُ ما زلتَ في جهاد مع نفسك، وستظل! ولا يحملنّك خيرٌ يأتيك بسهولةٍ ويأتي غيركَ بصعوبة ومشقة على أن تظن أنك تفضُلُه! فلربما بلغَ هذا الذي يحاول ويجاهد مع نفسه أعلى مما تبلغه أنت بأفعالك جميعها! فالعدلُ سبحانه مُطلع على قلوب العباد، وقد تحسنُ نيتهُ ويسوء عمله، وتسوء نيتكَ ويحسنُ عملك، فيفوز وتخسر! عامل الناس على هذا الأساس، وهوّن عليهم يُهون الله عليك، ولا تمش في الأرض مرحًا بما عندك أو ما وجدت نفسكَ عليه أو ما ستكون عليه، وكفى بالعاقل أن يعرفَ فضل الله عليه فيُطأطئ رأسه ويسأله السلامة ويشكره على أفضاله.. والقصد القصد تبلغ.. القصد القصد تبلغ..

***

كتبتُ النص أعلاه منذُ أكثر من سنتين في صيف عامِ الوباء ٢٠٢٠، وقرأته بعدها صُدفةً وأنا أجول في مذكراتي، فتحركَ في قلبي من كلام سيدي الباهوت: “أقَلُّ الجماعةِ اثنان، وأقَلُّ المسيرِ خُطوة، وأقلُّ الحَميَّةِ اصطفاف، وأقلّ الجُهد نِية، وأقلُّ الحمدِ إمساكٌ عن السُّخط، وأقلُّ الذكرِ فترةٌ عن الذنب، وأقلُّ الوفاءِ إبقاء، وأقلُّ الفوزِ سلامة، وأقلُّ الزادِ نسمة، وأقلُّ السفرِ نومة، وأقلُّ الصُّحبة موقفُ صدق..”

أضف تعليق