يُقال أن الرجل يظل طفلًا حتى إذا توفيت أمه شاخ فجأة.. وأقول أنني ما زلت طفلًا حتى رأيت الشيبَ في سالفةِ أمي، فكبرتُ في تلك اللحظة خمسين عامًا.. وما زالت تخيفني خيوط النور الذي بدأَ يُغازلُ الليلَ في شعر أمي حتى وددت لو أنه كان رجلًا فأقتله.. أو أرجوه أن يمشي ببطئ في حضرتها..
***
لكنه يعصيني يا أمي، هذا الوقت الذي يخيفُ طفلكِ المفتونَ بكل ما يتصل بك، يعصيني يا أمي ولا يتوقف، ويضل يعدو في حضرتك، يهرول، يركض وكأنه لا يمرّ على أحد سواك.. يعصيني يا أمي، وقد رجوته، وقد قدمتُ له القرابين، وقد سفحتُ له دمي لكي يستثنيك من سنّته.. لكنه يعصيني يا أمي..
***
أخبرتِني مرةً وقد لمحتِ في عينيّ شيئا من الحزن أنه لا يليقُ بعيناي أن تحزنا.. كيف لا يليق بهما الحزن بعدَ أن رأيتُ الثلجَ يكسو شعركِ الناعم الذي أعطيتني إياه؟.. ليتني يا حبيبةُ أعطيك الأيام في عمري فلا يزيدكُ الوقتُ إلا شبابًا ونضرة.. ليت الوقتَ يمرّ على كلانا فينقص مني ويزيد عندك.. لكنه يعصيني يا أمي..
***
عرفتِ أنني أفكرُ كثيرًا، وأنني أخاف عليكم كثيرًا، وأنني أهتم كثيرًا، وقد أعطي الدنيّة في حق نفسي كثيرًا؛ فحَملَتْكِ هذه الرقة في طبعي على أن تخافي عليّ من كل ما قد تأتي به الحياة من خيرٍ وشر..
عرفتِ أن الأيام تتقلب وأنها لا تدوم لأحد، فعلمتني على أن لا أعتاد..
عرفتِ أن الخير موجود في الناس كلهم، فعلمتني أن أظن بالناس الخير دومًا وإن بدا لي غيرُ هذا جليًّا كجلاء الشمس..
عرفتِ أن الحبّ يعبث بقلوب الرجال إذا هو دخلها، فما زلتِ تقتربين من قلبي حتى عرفتِ كل ما فيه، قبل أن أعرفهُ أنا حتى..
عرفتِ عن قلقي الأبديّ من أن لا أكون جيدًا بما فيه الكفاية، فهدأتِ من روعي بقولك أن الحياةَ لا تريد كل هذا الركض، أنها حلوةٌ بس نفهمها..
***
تعلمتُ منكِ يا أمي كل ما قد يتعلمه فتىً من أمه.. صالحتُ بوجهكِ الحلو أيامي جميعها يا ماما.. لكنني لم أصالح بعدُ هذا الوقت الذي لا يقبل أن يتوقف عندك.. جمعتُ له كل كتاباتي.. حشدتُ له كل المفردات في لغتي.. قدمتُ له قصائدي التي تحبين سماعها جميعا.. لكنه لم يتوقف بعد.. لكنه ما زال يعصيني يا أمي..
