وأنتِ لم تبرحي في النّفسِ عالقةً

أكتب هذه السطور وقد استحثني لها قول الجواهري في قصيدته التي طلع الصبح عليّ من هذا اليوم وهي ترن في رأسي: “إنا لنخنقُ في الأعماقِ غُربتنا ** حتى تَمورَ على أحداقِنا حُرقا”..
قصيدة الجواهري التي يبدؤها ب”شَمَمْتُ تُرْبَكِ لا زُلْفى ولا مَلَقا”، يُتم بعدها ستا وسبعين بيتًا مُتغنّيًا بدمشق وبحياته التي قضى أغلبها فيها.. وإن حُقّ لمدينةٍ أن تزهو بما كُتبَ فيها، فحَقّ لدمشق أن تزهو بهذه القصيدة.. أقول هذا وأجدُ في نفسي حاجةَ لأعتذر من نزار وشوقي وميادة وفيروز ومحمد عبد الوهاب وغيرهم كُثر ممن كتب وغنى لدمشق. الجواهري الذي يقول في قصيدته “وسِرتُ قصدكِ لا كالمشتهي بلدًا ** ولكن كمن يتشهّى وجهَ من عشِقا!” يحكمُ والله بهذا البيت وحده على كُل ما قيل في هذه المدينة بأنه دون قصيدته. وإن لم يزل عندك شكٌّ في هذا، فأكمل حتى تصل إلى قوله:

دِمَشْقُ عِشْتُكِ رَيْعاناً، وخافِقَةً
ولَمَّةً، والعُيونَ السُّودَ، والأَرَقا
وها أَنا، ويَدي جِلْدٌ، وسالِفَتي
ثَلْجٌ، ووَجْهيَ عَظْمٌ كادَ أو عُرِقا
وأنتِ لم تَبْرَحي في النَّفْسِ عالِقَةً
دَمي ولَحْمِيَ والأنْفاسَ، والرَّمَقا

فإن لم يزل عندك شكٌّ بعدها، فأسأل الله لك المغفرة..

دِمشق التي لم أعرفها إلا بزيارات قصيرة، نزلَت عندي منزلًا لم تنزلهُ مدينة أخرى. وقد قرأت لشيخنا الطنطاوي ذكرياته التي تقع في حوالي ثماني مجلدات فما زادتني إلا حبا لدمشق، ولم أتوقع أنني أقرأ بعدها كتابًا يجعلك تقترب من دمشق وحاراتها وناسها أكثر مما فعل الشيخ في مذكراته.. كان هذا إلى أن قرأت له “دمشق: صورٌ من جمالها وعبرٌ من نضالها” فكان كتابه ذاك حبة المسك التي أيقنتُ بعدها أن الله قد قسمَ الحُسنَ على مُدن الدنيا فجعل لدمشق أوفره. وقد شاء الله أن أقرأ له هذا الكتاب بعد أن اشتعلت شرارة الثورة في سورية، فما زلت أمنّي النفس بزيارة لها، مستعيرًا في منايَ هذا قول الجواهري ” وكان قلبي إلى رُؤياكِ باصِرَتي ** حتى اتَّهَمْتُ عليكِ العينَ والحَدَقا”.. 

أقول أن قول الجواهري الذي ابتدأتُ به هذه التدوينة قد أقعدني لأكتب، وكنتُ لم أكتب حرفًا واحدًا منذُ أن وصلتُ إلى شيكاغو غريبةُ الجو والأطوار منذ شهرٍ تقريبًا.. لم يمنعني عن الكتابة انشغالٌ بدراسة مثلًا أو أي شيء مما يفترض أن أنشغل به في رحلتي هذه، ولكنه الشوق الذي همّ بي منذ أن نزلتُ هذه البلاد. أحن منذُ أول يومٍ لي هنا، بل من أول ساعةٍ والله، إلى خبز أمي، وقهوتها، وصباحاتها، ومساءاتها، وكل أحاديثها.. أبي الذي له من حبي لدمشق ولقصيدة الجواهري فيها الكثير، يمازحني كلما اتصلت بهم بقوله “شكلي حبعت إمك تقعد عندك، طول اليوم بسيرتك وعم تدعيلك” يتركني وأنا أسأل نفسي عما إذا كان الله قد خلقَ شعورًا أصعبَ على المرء من أي يشتاق لأمه فلا يجدها أمامه ليُقبل يديها وجبينها ويسمعها تدعو له بالرضى فيرجو بهذه الدعوات أن يبارك الله له شؤونه كلها..

أدام الله عليكم أمهاتكم وأطال في أعمارهن ورَزَقَكم برهن ورضاهن، وكل عامٍ وأنتم وهنَّ بخير.


لولا أن الجواهري قد ختم المقطع بمديحه للمجرم حافظ الأسد لكان هذا أعظم مقطع لقصيدة على اليوتيوب.

One Reply to “”

أضف تعليق