تعاقبت عليّ مراحل من النضج وصوره.. ولبست أثوابًا من القناعات وخلعت أثوابًا.. وبنيت لي قلاعًا من المسلّمات والقيم، ولم أزل بي أهدمُ وأبني غيرها.. وتواتر على وعيي جمعٌ غفيرٌ من الأفكار والآراء والرؤى، فلم أفتأ أُجيل النظر فيها فأرد بعضها وأقبل بعضها، أو أقف موقف المحايد أو غير المهتم من بعضها.. فلم أرسُ إلا على حفنة قليلة من القناعات والأفكار الشخصية، التي رأيتُني أتغيرُ فلا تتغيرُ علي، وأُقلّب رأيي في أمور كثيرة وهي ثابتة.. حتى نظرت إليها فوجدتها زبدة سنواتي الماضية من القراءة والعزلة والتأمل في ما تسير به حوادث أيامي القليلة من إقبال للدهر عليّ وإدبار.. رأيتُني أرتاح إليها كما لا أرتاح لغيرها، فلا أشعر نحوها بالقلق الذي يرافق بعض الأفكار التي لم تكرمني الحياة باختبارها بعد.. لا يحملني على قول ذلك ثقةٌ مني بألّا أستبدل هذه القناعات بغيرها.. بل إني والله لا أتردد أن أرمي بها جميعًا عند أقرب حقيقةٍ يقبل بها عقلي وتسكُن لها نفسي.. إلا أنني ارتأيت أن تأريخها وتوثيقها قد يرجع بالنفع على النسخةِ الأكبر مني، كما أنه بوحٌ بجزء من الرحلة التي نتشاركها جميعًا، وقد يجد أحدٌ فيه ما تطيب له نفسه فيُجيل النظرَ فيه، فيأخذ منه ويَرُد.
الآن وقد أسلفت ما أسلفت؛ هذا ما أنا متيقنٌ منه من هذه الرحلة حتى الآن:
– أدركت في مرحلة ما أني لست بحاجة لأُكوّن رأيًا عن كل ما من حولي، خصوصًا ما لم يكن لي فيه ناقة ولا جمل. وقد كنت أندفع لخوض غمار كل المعارك الفكرية ظنًّا مني بأن لابد للمثقف من أن يملك نظرةً أو رأيًا في معظم القضايا. أدركت متأخرًا أن النصر في بعض المعارك يكمن في ألّا أدخلها أصلًا.
– ثم استوعبت أني وإن كنت قد كوّنت رأيًا في أمر ما، فإني لست في حاجة لأن أقوله، دونًا عن أن أُبشر به وأدعو الناس إليه. ولقد سَكَنَت نفسي إلى أن أنأى بالأفكار التي أؤمن بها في كثير من الأحيان عن أن يمتهنها من هو مُبرمجٌ على المشي مع القطيع.
– السواد الأعظم من الناس يسكنون لما وجدوا عليه آباءهم ويستريحون إليه، والحق أن في ذلك راحةً يتذكرها من بدأ بإعمال عقله، ثم ينكرها ويكرهها إذا هو تجلد على هذا التعب، تعب الاختلاف والتغيير.
– مع الوقت، أصبحت عندي قناعةٌ مطلقة بأن الأوقات الصعبة لن تمنّ على أحدٍ بالدروس والعبر بالضرورة، كما أن أوقات الرخاء لن تمسك يدها عن أن تؤتيَ من صفوة الحكمة والفهم. الأمر كله عائد للطريقة التي تفهم فيها المرحلة وتتفاعل معها.
– لم أُسدِ لنفسي خدمةً أعظم من أن أقلل توقعاتي من الآخرين.
– الأداة البشرية الأقدر على محاربة الأيديولوجيا التي تبنيها حياة الفرد الأسرية والاجتماعية هي المعرفة، تحديدًا تلك المكتسبة من القراءة.
– لا يوجد فعلٌ أقدر على خلق جسر للتواصل بين المعرفة والجهل من التواضع.
– لا تُبالغ.
– نعم لابد أن الأمر كان ليبدو رائعًا لو أن البشر كانوا لطيفين مع بعضهم دومًا، لكن أن تتوقع هذا في الحياة الواقعية؟ هراء. أن تمتعض لكون هذا ليس واقعًا؟ هذا هراء أكبر.
– ربما استطعت لمرات قليلة في حياتي أن أتقبل صفات عوجاءَ سيئةً في أحدهم، إلا أنني لم أستطع لمرةٍ واحدة أن أهضم الكِبَر الذي يرافق الجهل، والتسرع في الحكم على الأشخاص.
– التجربة البشرية زاخرة بالكثير من الحماقات، ولا يسلم شخصٌ مرّ بهذه التجربة من أن يطاله شيء منها، نحن نختلف فقط بقدْر وشدة هذه الحماقات. لذا؛ هوّن عليك.. وهوّن على من حولك.
– أكثر ما يثير في نفسي الرغبة في التقيؤ هم الأشخاص الذين يهاجمون أفكار الآخرين من غير علمٍ كافٍ عنها.
– الثلاثون سنة الماضية من عمر البشرية أخرجت لنا جيلًا نِصفه على أقل تقدير يعاني من فرط الحساسية اتجاه النفس والأفكار التي يؤمن بها.. جيل رقاقات الثلج، لا يحتمل الاختلاف معه بالرأي، ويفقد أعصابه عند أصغر انتقاد لفخامته.
– لا تحدثني عن شهاداتك أو عدد الكتب التي قرأتها أو التجارب البنّاءة التي مررت بها، إذا كنت غير قادرٍ على قول “لا أعلم” و”أخطأت” في أي موقف ومع أي أحد؛ فأنت ما زلت جاهلًا.
– لا تكره الأشخاص، اكره صفاتهم السيئة. إلّا إذا كانوا بِغالًا عنصريين، هنا لك صلاحية أن تمقتهم وتمقت الأرض التي يمشون فوقها.
– غالبًا ما يكون أعظم ما قد تقدمه لأحدهم هو الثناء الصادق.
– لا تُبالغ ياخي.
– جزء مهم جدًّا من عملية النضج، أن تدرك مروركَ بها.
– كثيرًا ما تكون لذّةُ الاحتفاظ بالود أعذب من لذّة النصر، جرب أن تعتذر وإن لم تكن مُخطئًا.
– الإيجاز الذي يأتي بالمعنى كاملًا وبشكل واضح أصعب ويستهلك وقتًا أطول بكثير من الاسترسال.
– غالبًا ما يتناسب مقدار الألم الناتج عن مشروع فاشل بشكل طردي مع توقعاتنا منه. حاول أن تفترض حصول الأسوأ وابنِ توقعاتك وفقًا لذلك، صدقني سيصبح أمرُ أن تنكسر أصعب بعشرين ضعف.
– أيًّا كان نوع العلاقة، تعامل مع طلب الآخر بأن يختلي بنفسه على خلفية حزن أو صدمة أو حتى انزعاج بطريقة واعية أكثر، وأعطه مطلبه، ودعك من هراء “الوقوف بجانب الآخر” بالمعنى الحرفي.
– لو كان حتمًا عليك أن تنقذ العالم، حاول أن تبدأ بإنقاذ الآخرين من حولك بألّا تقرفهم حياتهم قولًا أو فعلًا. سواءً كان الآخرون أهلك أو أصدقاءك أو زملاءك أو قطة العمارة.
– قبولك بدخول أي إنسان إلى حياتك على المدى الطويل هو بشكل أساسي قبول ضمني منك لسلبياته وتصريح بأنك مستعد للتعايش معها.
– ولك لا تُبالغ مشان الله.
– قد يأخذ الأمر بعض الوقت لتتيقن منه، لكن صدقني، الطريق الأقصر للحصول على الكثير هو العطاء الكثير.
– الأمل بأن غدًا سيكون أكثر راحةً وأقلّ أعباءً هو أمل طفولي. الأمل بأنك غدًا ستكون في حال أفضل وأقدر على تحمل أعبائه هو الأمل الذي يُقِيمُك.
– من الصعب جدًّا تصديق أنك تتقدم من غير أن تقع مرةً على الأقل بين الحين والآخر.
– حاول أن تقضي وقتًا أقلّ في أحزانك الحالية وتجاوزها بسرعة، لأن هنالك أحزانًا أخرى في الطريق. المشكلة ليست في وجود الأحزان؛ بل في تراكمها.
– كوّن الكثير من العلاقات، واقتصر على بضع صداقات مقربة.
– تغيير قناعات الآخرين بالحوار المباشر غالبًا ما سيؤول للفشل. تسليمك بهذا سيُوفّر عليك قدرًا كبيرًا من النقاشات البالية.
– القلق من المستقبل أشبه بكونك تحاول تعليم قطتك التسميةَ قبل الأكل.. كلاهما بلا فائدة.
أخيرًا، كنتُ قد عكفت على هذه التدوينة زمنًا ليس بقصير، فأرَقتُ عليها ساعات من التأمل والتفكير. والحق أني لم أكتبها في جلسة واحدة، بل كنت إذا تواردت إلى ذهنيَ الأفكار ووجدتُني مُقبلًا على الكتابة، جلست فكتبت ما تيسر لي منها حتى ينقطع خيط الأفكار أو تركن الرغبة في الكتابة. وعلى أنه نص قصير، إلّا أنه ثقيلٌ جدًّا في كل مراحله. حتى أني قد حدثتُني بأن الوقت لم يزل مُبكرًّا على كتابات كهذه، وأني استعجلت ما كان خيرًا لي لو استأخرته، ولكني أحببت أن يكون لسنوات رحلتي القصيرة بعدُ خلاصة. وإلا فقد عَلِمَت نفسي أني لم أقف إلا على رابية من العلم، وأرى من موقفي هذا جبالَ الفهم والحكمة التي ما زلت أجهلها، ولَإن منّ الله عليّ بما يلزم لأشقّ طريقي إلى قممها، فإني حاملٌ نفسي على ذلك.

كل عام وأنت بخير، زادك الله معرفة وسدادًا.
إعجابLiked by 1 person
تسلم ايدك ابو قصي
إبدااااااع
إعجابإعجاب