“إنني أريد أن آخذ حقي من الحياة عنوة. أريد أن أعطي بسخاء، أريد أن يفيض الحب من قلبي فينبع ويثمر. ثمة آفاق كثيرة لابد أن تزار، ثمة ثمار يجب أن تقطف، كتب كثيرة تقرأ، وصفحات بيضاء في سجل العمر، سأكتب فيها جملاً واضحة بخط جريء..”
– الطيب صالح
بإمكانك أن تقضي ما بقي من عمرك بحثًا عن الراحة والاستقرار.. بإمكانك أن تحلم حد الانتشاء بتلك اللحظة التي تطير فيها فرحا بعد تحقق أمرٍ كنت قد حشدت له كل ما عندك من وقت وجهد، بل بإمكانك أن تتوقف عن التخيل لتجد أن هذا الأمر قد أصبح واقعًا.. بإمكانك أن تقرأ عشرين ألفَ كتاب عن تحقيق الذات ومعنى الحياة وعن “هل نحن وحدنا؟”.. بإمكانك أن تقع في الحب، ثم تستجمع كل ما وهبتك الحياة من شجاعة، لتقف أمام حسنائك المنتظرة، وتخبرها بأنك تحبها بكل المعاني التي تعرفها ولم تعرفها بعد، وبإمكانك أن تتخيلها وهي تخبرك بصوتٍ أنثوي خجول أنها تحبك هي الأخرى.. بإمكانك أن تفعل كل هذا وأكثر في بحثك المستمر عن السعادة.. أو بإمكانك أن تشعر بالامتنان، متى كانت آخر مرة رقصتَ فيها فرحا تحت المطر؟
أستيقظ كل يوم في الساعة الخامسة، أحيانا لا أحتاج لمنبه كي أسيتقظ، لا بد أنها ساعتي البايولوجية اعتادت أخيرًا بعد معافرة دامت عدة أشهر.. أمشي إلى المسجد بخطىً هادئة، صوت المطر يختلج فوق أسقف البيوتِ وبُركِ الماء الصغيرة على امتداد الطريق، فيختلط بتسابيح المشّائين إلى الفجر.. أرفع نظري لعمود الإنارة فأعرف بالمقارنة أنها تُمطر بغزارة أكثر من الليلة السابقة.. “اللهم افتحلي أبواب رحمتك”.. “سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك”.. “السلام عليكم ورحمة الله.. السلام عليكم ورحمة الله”.. “في ذمة الله حتى يُمسي”..
أخرجُ من دفء المسجد، لمحة سريعة على عمود الإنارة، المطر أخف الآن.. هنالك شعورٌ يجتاحني في هذه اللحظة، كأن عصفورًا من الرضا والأناة ينقر على قلبي، لا أعرف كيف أصفه بدقة، هل أنا ممتن؟
تبدأ الغالبية العظمى من أيامي في النادي.. هنالك سر ما في أن تبدأ يومك وأنت تلتقط أنفاسك من شدة التعب، سواء كان هذا بين أشواط السباحة، أو في المجموعة الأخيرة من تمرين الديدليفت.. هل تريد أن لا ينال منك التعب في منتصف يومك؟ جرب أن تتعبَ في رياضةٍ ما في بدايته.. سيتحقق لك أمران على الأقل أنا متأكد منهما: لن تتعب في منتصف اليوم، ستنام في آخره كمن لم ينم من قبل..
أخرجُ من النادي شبهَ مبتل.. يلفح الهواء البارد وجهي وينتشر في رئتي كأنني لم أكن أتنفس منذ بداية اليوم.. أسترق النظر إلى الساعة، إنها تشير إلى الثامنة واليوم لم يزل إلا في بدايته..
“سَأمْدَحُ هذَا الصَّباحَ الجَديد” آه درويش، لقد اعتدت على مديح الصباحات بجملتك هذه.. “سَأَنْسَى اللَّيَالَي، كُلَّ اللِّيَالي، وَأَمشِي إلَى وَرْدَةِ الجَار، أَخْطفُ مِنْهَا طَريقَتَهَا فِي الفَرَحْ”.. حتى على المشيِ إلى وردة الجار، اعتدتُ أيضًا..
ذلك الشعور مجددا.. والعصفور نفسه.. ربما كنت ممتنا؟
تختلف الطريقة التي أقضي فيها أيامي باختلاف جدولي في الدوام، وازدحام قائمة المهام اليومية التي أدونها على عجل قبل النوم.. وعلى أي حال، لا أَعدمُ في معظمها بضع ساعات من الدراسة، ساعة من العمل الغير مفيد لكنه ضروري، ساعة من العمل المفيد والضروري، ساعة من القراءة، وأحيانا – إذا كنت في مزاج جيد مثلًا، سأكتب قصيدة.. هل نسيت أن أقول أنني أضيع قسطًا لا بأس به من الوقت؟ حسنًا، لا تَعدمُ أيامي ساعة على الأقل من هذا أيضًا..
أحاول دائمًا أن أعود إلى البيت قبل الساعة الثامنة؛ لأقضي ما بقي من سويعات في اليوم الذي امتدحت صباحه مع أهلي الذين لا يفشلون أبدًا في جعلي أمتدح مساءه أيضا.. أستطيع أن أقضي ساعتين وأنا أتحدث عن ما يجعل بابا من نوعية الأشخاص الذين تود أن تقضي حولهم قدرًا كبيرا من الوقت، ولكنني سأكتفي هنا بقول أنه لا يتوقف عن إلقاء النكات وخلق جو من المرح أينما حل.. ماما، التي تضحك على نكات أبي جميعها، تستقبلني بسؤالي عن يومي أحيانًا -تردّ عن عينها عيني وتشغلني عن حالها بسؤالي كيف أحوالي-، وفي أحيانٍ أخرى تبدأ بسؤالي عن متى ستفرح بي، لأرد أنا مازحًا في كل مرة “في الأربعين؟ أو الخامسة والأربعين ربما؟ لا أعلم”.. “ومين حيقبل فيك وانت عمرك أربعين شفتلي؟”.. يقطع هذا الحوار المتكرر صوت أخي الصغير وهو يركض في اتجاهي “عدييي تعا اتحداني فيفا والله لحتى تتصفق هالمرة”.. أظن أن آخر مرة خسرتُ فيها أمامه كانت قبل عامين أو ثلاثة في مباراةٍ قام أبي برشوتي فيها لأخسر تجنبًا لبكائه، لكن هذه الحقيقة لا تمنع هذا الصغير من أن يكون واثقًا في كل مرة من أنه سيلحق بي الهزيمة.. هل لي أن أستعير أمَلَكَ المتجدد في هذه الحياة يا صغير؟
عصفور الرضا والأناة مرةً أخرى.. لا بد أن هذا هو الامتنان..
***
لا أعرف شعورًا يخترق روحي من أقصاها إلى أقصاها كالامتنان.. كقطةٍ لعوبةٍ تُلح عليك لتلعب معها عُنوة.. يعطي لكل دقائق يومك هالة جديدة، تشعر وكأن نورًا سماويًّا ينتشر من كل تفاصيل يومك، من كل الزوايا ليُنير زوايا قلبك، من كل الأغنيات لينير أغنيتك، ومن كل من هم حولك ليُنيرك أنت..
***
لا أنكر أن بعض الأيام تكون ثقيلةً جدا.. ثقيلةً بشكلٍ يصعب عليّ معه أن أتحسس العصفور الذي ينقر على قلبي ليُشعرني بالامتنان.. فأجد نفسي لا أنتظر من اليوم سوى نهايته، لأختمه بكتابة مهامي لليوم التالي قبل أن أخلد إلى النوم..
لكن حتى في أيامٍ كهذه.. قد يأتي اقتباسٌ مفاجئ في التقويم الذي أدون مهامي فيه، ليبرهن لي مجددا أنني قد لا أُوفق أحيانًا في أن تجد السعادة طريقها إلى جميع أيامي.. لكنني على الأقل، في نهاية يوم ثقيل، قد أشعر بالامتنان للطيب صالح، الذي سيخبرني بأنني لابد أن آخذ حقي من الحياة عنوةً، أن أعطي بسخاء، وأن يفيض الحب من قلبي فينبع ويثمر..
عصفور الامتنان.. تأخرت هذه المرة يا صديق.. والحمد لله من قبل ومن بعد..


عظيمٌ ما كتبت.
ممتن، أشد الامتنان، لما سطّرته من وصف دقيقٍ وجميل. عميقٌ ولكن بثوب من البساطة.
استمتعت جدًا.
أنتظر جديد ما تكتب بلهفة.
خالص حبي وودي.
إعجابLiked by 1 person
شُكرًا يا حبيب، كلامك أبهجني والله!
لا تحرمنا كتاباتك إنت كمان 😉
إعجابإعجاب