أواجه صعوبةً بالغة في الكتابة عن هذه الليلة. لا أدري هل هي المفاجأة من أنني أصفها كأمر صار وانقضى؟ أكتب عدة جُمل.. أستهلها بأفعال على قبيل: كانت، كنت، صرت، شعرت… فأجد نفسي بعدها مأخوذًا بشيء من الذهول والعجب.. إنني أتحدث عنها بصيغٍ ماضية.. أفعال تخبرني بأن كل هذا قد حصل بالفعل.. أفعال تُنبهني على أن كل هذا قد صار في عداد الذكريات.. الليلةَ سأسمع الست وهي تغني: “ذكرياتٌ عبرت أُفق خيالي.. بارقًا يلمعُ في جُنحِ الليالي” وأضيفُ ليلة التخرج إلى الصور التي تعبرُ أفق خيالي مِرارًا؛ لتنبّهَ قلبي من غفواته.. ماذا نكون نحن سوى بساتينٍ من الذكرياتِ على أي حال؟
أعود في مذكراتي، لم أستطع في حياتي أن أواظب على كتابة المذكرات بشكل يومي، لكن بعدَ قراءة ما يُنيف على الست سنوات منها، أجدُ أنه لم يَفُتني أن أكتبَ عن أهم الصورِ من رحلتي في الجامعة..
أنا أكتبُ فقط عندما تتفجر الكلمات عيونًا في صدري، وهذا التأريخ الذي أحاولهُ هنا جداولُ الماءِ التي تشهد على تلك العيون..
- صيف العام ٢٠١٦
صديق أبي العم قصي يخبرني بأنه يجب علي أن أحضر البريميد مع زاهد ابنه “ربما يساعدك هذا في اتخاذ قرار التخصص” يقول.. بعدها بيومين كنتُ في قاعةٍ شبه ممتلئة، أجلس في الصف الأول، وكل خلية في عقلي تحاول أن تفهم ماذا تعني كلمة embryogenesis التي رددها المحاضِر عشرين مرة.. زاهد يجلس بجانبي بعد أن عرفني على أصدقائه جميعًا.. حدثت نفسي بأنه يبدو كمكان لا بأس به لقضاء العدة سنوات القادمة، بالإضافة إلى أن الجميع يبدو ذكيّا بشكل غريب هنا، هل هذا ما يبدو عليه طلاب الطب في الحقيقة؟.. صليت ركعتي استخارة في مسجد الجامعة.. وعُدت بعدها للبيت لأخبر أبي بأنني قررت أن أدرس الطب في الفيصل.. بابا يؤكد علي أن القرار لي وأنه لن يمانع إذا لم أدرس الطب بناء على رغبته القديمة.. “لا خلص بدرس طب متل ما بدك” أجيبه لاهيًا.. يضحك ويقول لي أن الخيار خياري وأنني أعرف ذلك جيدا.
- صيف العام ٢٠١٧
انتهيت من السنة التحضيرية، كان من الأفضل لو أنني تخطيتها.. لكنني تعرفت على بعض الأشخاص الطيبين وهذا أمر جيد..
- يناير/٢٠١٨، بعد نهاية الفصل الأول من السنة الأولى
“ياخي ماني حابب الطب كله، حاسه كئيب وحاسس إني ممكن كون أحسن بمكان تاني” أقول لصديقي الذي يبدو عليه أنه ينتظرني لأنتهي من حلطمتي حتى يفند كل ما قد قلت.. “وحضرة جنابك كم معدلك بعد سمستر بالطب شفتلي؟” يسألني في شيء من السخرية.. أخبره عن معدلي.. “ايه خلص اسكت واقعد انت بالمكان الصح لكن” يرد حاسمًا الأمر..
- مارس/٢٠١٨، في وقت ما من منتصف الفصل الثاني
ما كل هذا الحزن؟ قاتل الله الطب لابد أنه هو السبب.. ماذا أفعل هنا بحق الجحيم؟
- يوليو/صيف العام ٢٠١٨
“عدي تستهبل؟ ياخي حدا بيقطع إجازته وبيرجع على جهنم الرياض مشان يعطي محاضرة بريميد؟” براء يسألني بحنق واستنكار.. “براء مو محاضرة وحدة عم قلك عطوني أربع محاضرات وكنان قلي you got the highest score فشكلي مهم لنجاح البرنامج” أقول هذا وأنا أضحك على جملتي الأخيرة.. “يعني إنت حتترك اسطنبول مشان ترجع تنجّح برنامج البريميد؟ الله يشفيك بس” يرد منهيا النقاش، ويعود ليخبرني عن أجواء شيكاقو الفاتنة وصباياها الجميلات.



- أغسطس/صيف العام ٢٠١٨
بعد نقاش احتد مع بعض الأصدقاء، قرروا بعده أنني يجب أن أحاول الترشح لتمثيل الدفعة.. “يا شباب والله ماني حاسسها زابطة، يعني خلص ترشحت السنة الماضية وما مشي الحال!” أخبرهم محاولًا التملص من هذا المأزق.. “يا زلمي انتي السني الماضيي رسالي على قروب الدفعة ما كونت بدك تبعت، أكيد ما كونت رح تفوز يعني.. لازم أخد بالأسباب” أبو مالك يحاججني بلهجة حمصية عذبة.. كان هنالك شيء عميق في داخلي يخبرني بأنني سأندم على كل هذا..
- سبتمبر/٢٠١٨، الشهر الأول من السنة الثانية
عُمر يوقظني من النوم بعد عشرين مكالمة.. “WE WONNNNNN” يصرخ من الجانب الآخر.. كان ثوب النوم ما زال مُسدلًا على وعيي فلم أفهم قصده، استغرق مني الأمر بضع ثوان لأستوعب.. الواتساب يمتلئ بالتهاني.. تراسلني ممثلة الدفعة وتخبرني بأننا يجب أن نجتمع لنتناقش في أمور الدفعة.. أظن أنني سأفتقد الهدوء الذي لفّني خلال السنة الأولى..
- ديسمبر/٢٠١٨
“Complete tear of ACL, complete tear of MCL, complete tear of medial meniscus.. هذا المكتوب في التقرير بالحرف، ما مدى سوء الوضع؟” أسأل صديقي قلقًا..”شف أنا توني طالب اختصاص فلازم تاخذ رأي أحد عنده خبرة أكثر مني.. بس اللي أعرفه إنه يبغالك عملية وبعدها علاج لمدة سنة وممكن تقدر تلعب كورة بعدها ممكن لا”
- مارس/٢٠١٩
“شوف أنا برأيي خلينا نترشح بس عشان التجربة والفوز مو مهم كتير الصراحة” براء يقول لي هذا محاولًا أن يخفف من وطأة خسارة انتخابات اتحاد الطلبة المحتملة في حال قررنا الترشح ضد خصمنا المعروف جدا وصاحب الحظ الأوفر في هذا السباق.. فاطمة توافقه الرأي: “It will be fun anyway”.
- أبريل المتخم بالذكريات/٢٠١٩
الثاني من أبريل
الحملات الانتخابية لاتحاد الطلبة تبدأ.. لماذا كل هذا الانقسام يا رفاق؟ ألسنا نعمل جميعًا لهدفٍ واحد؟
“حضرت الdebate كامل.. أنا مؤمنة بأن مجلس الطلاب في حاجة ماسة لشخص مثلك تمامًا.. سأمنحك صوتي بكل تأكيد وآمل أن نرى تجربة ومن أحياها على نطاق أوسع هذه المرة!” لينة صاحبة الأفضال تكتب لي لتحسم بهذا أي ندم كانت قد بثته المهاترات التي أخذت تشتعل بين طلاب الكلية في نفسي..

الثامن من أبريل
صديقي خليفة يقف خلف البوديوم وأمامه نتيجة التصويت.. أجلس في الصف الثاني وأحاول أن أشتف من نظراته نتيجة التصويت لكن بلا فائدة.. “I would like to congratulate the next MSA president“ خليفة يقول هذا ويقف لوهنة قبل إعلان الفائز.. “عدي والله ما وقف كثير يمكن ثانيتين بس” يقول عبد الرحمن بعدها بيومين مُصرّا.. “ياخي متأكد؟ حسيتو وقف عالقليلة نص دقيقة” أجيبه في شك..
أمشي بعدها في بهو الجامعة، الكل يُهنئ.. أناس لا أعرف أسماءهم حتى.. “تعا خلينا نتصور قبل ما تصير شخصية مهمة بعدين ونبطل نقدر نلقطك” غيث متهكمًا..
“معالي الرئيس لابد لنا من عشاء على شرف هذا الفوز المهم والضروري جدا” دكتور أيمن في عناق دام لعدة ثواني.. “ضروري جدا؟” أقول لنفسي.. يا الله ما كل هذا الثِقل الذي أحس به فجأة.. اللهم عونك..
أعود للبيت، أخي يقفز علي ويسألني في حماس: “يعني هلأ صرت انت رئيس الجامعة؟” هههههه وكأن هذا ما كان ينقصني

الحادي والعشرون من أبريل
عبد الرحمن يقف في الأودوتوريوم بعد انتهاء الTBL ويطلب من الجميع أن يبقى في مكانه.. “ليش عم تصورني؟” أسأل يزن مستغربًا..
الدفعة العاشرة.. بوسعِ المرء أن يشكر، لكنه أبدًا لن يكون قادرًا على التعبير عن امتنانه..
بعد مفاجأة الدفعة بساعتين.. أستقبل بريدًا أُخبر فيه بأنه تم تعييني كـ PreMed Director.. “أكيد في غلط” أقول لعبد الرحمن مُستغربًا “قلتله لناصر إني ما حقدر إمسك البريميد لو فزت بالMSA” أضيف..

الثاني والعشرون من أبريل
“حسنًا سأوافق على استلام البريميد لكن عندي شرط” أقول وكل من في المكتب يرمقني بنظرات استغراب.. “أريد أن أختار الفريق كاملًا.. وأريد أن أعين Head آخر بالإضافة لمن قُبل”
- مايو/٢٠١٩
وداعًا ومن أحياها
- يونيو/٢٠١٩
البريميد يبدأ
- يوليو/٢٠١٩
البريميد ينتهي


- نوفمبر/٢٠١٩، الفصل الأول من السنة الثالثة
“تريد منا أن نقوم بتسبيق اختبارات نهاية العام؟” يسألني بعينين متسعتين.. “نعم يا دكتور.. صدقني هذا أفضل لكثير من الطلاب.. خصوصًا الخريجين منهم.. سيكون عندهم متسع من الوقت للتحضير للامتياز” أرد.. يجيبني: “حسنًا حضر خطةً جيدة أكون فيها أنا محايدًا ودع الباقي علي”
- ديسمبر/٢٠١٩
مهلًا.. ما كان هذا؟
السماء تمتلئ بالنوارس
- يناير/٢٠٢٠
“ليش ما ودك تقرا في الحفل مو فاهمة!؟” تسألني المنظمة للمرة الخمسين .. “أستطيع أن أعد لك عشرين طالبًا على الأقل تلاوتهم متقنة أكثر مني! ألا يبدو هذا سببا كافيًا في نظرك؟” أرد عليها بنفس السبب للمرة الخمسين أيضًا.. “عدي كلمتني -فلانة- تقولي إنك رفضت تقرا في الحفل.. المشكلة إنه الدكتورة طلبت اللي قرا العام في عنان السماء بالاسم.. خلاص إقرا هذي المرة وبعدها أنا بشيل اسمك من عندنا على أساس ما تنحرج مرة ثانية” حسين بأسلوبه الدبلوماسي المعروف يكون سببًا في تلاوتي الأخيرة في الفيصل..
- مارس/٢٠٢٠
“اسمع.. بدي نجهز ملف فيه كل المعلومات المتاحة عن الفايروس إلى حد اللحظة وكيفية الوقاية منه.. وأنا برسله لخالد وخلينا نعممه على الجامعة” أقول لعمر رجل المهمات الصعبة.. لم يأخذ منه الأمر سوى يوم واحد.. هذا الإنسان مُذهل!
تنبري آية لترجمة الملف بعد نشره.. يُعمم على كل طلاب وموظفي الفيصل بنُسختيه الإنجليزية والعربية.. اتحاد الطلبة يخاطب كل من في الفيصل بلا استثناء للمرة الأولى في تاريخه!



- أبريل/٢٠٢٠
تبا لاتحاد الطلبة وكل ما يأتي به من مصائب.. هل يعني ما قال بالفعل؟
الفيصل تريند في تويتر.. إنني لا ألومكم يا رفاق.. ولكن الإبِلَ لا تورد هكذا..
- يونيو/٢٠٢٠
انتخابات اتحاد الطلبة.. إنني أطوي الصفحات الأخيرة من هذا الفصل.. “أُفكر في أن نقوم بالأمر بشكل مختلف هذه المرة؛ سيكون هنالك لجنة انتخابية مستقلة وستشرف هي على الانتخابات بشكل كامل، ما رأيك؟” أسأل دكتور عاكف ليرد كعادته: “اعمل اللي بتشوفه، توكل على الله”
- أغسطس/صيف العام ٢٠٢٠
مكالمة فيستايم مسائية متأخرة دامت لعدة دقائق، نتفق فيها أنا وعبد الرحمن على أن نعيد إحياء فكرة البودكاست..
- نوفمبر/٢٠٢٠ الفصل الأول من السنة الرابعة
فيا رب من أجل الطفولة وحدها ** أفِض بركات السِّلمِ شرقًا ومغربا.. طب الأطفال يبدو مكانًا لا بأس به بالنسبة إلي.
- فبراير/٢٠٢١
عبد الرحمن وأنا نعيد رسم خارطةٍ جديدة للبودكاست بعد اجتماع الفريق الأول.. “الصدق بهذا الفريق أحس نقدر نسوي أي شي نبغاه” عبد الرحمن يخبرني ببجهة وثقة.. فليكن إذا يا صديقي..

- أبريل/٢٠٢١
الليلة الأولى من تساقط النوارس.. هذا ما لم يكن في الحسبان..
- مايو/٢٠٢١
هل يولد الجراحون أوغادًا؟ أم أنهم يصبحون هكذا مع مرور السنوات؟
- يونيو/صيف العام ٢٠٢١
داود طالب الهندسة البشوش يترجل إلى جوار ربه بعد صراعٍ مع مرضه المزمن.. “mr president how have your days been?“ كان يسألني في كل مرة نتصادف فيها، أحيانًا كان يأتي من آخر المكتبة ليلقي علي سؤاله العذب هذا.. إن حضورك الطيب لا يفارق دعواتي يا صديق.. رحمك المولى وطيب ثراك..

- يوليو/صيف العام ٢٠٢١
لكن لماذا الآن؟ السطر الأخير من الخيميائي يرن في أذني.. والسماء تمتلئ بالنوارس مجددًا..
- أغسطس/صيف العام ٢٠٢١
عبد الرحمن الخطيب، خريج كلية الطب، المثقف الخلوق، يختاره الله من أهلِ البقيعِ لتعرجَ روحهُ الطيبة منها إلى بارئها..

- سبتمبر/٢٠٢١، الروتيشن الأولى من السنة الخامسة والأخيرة
حوارٌ لطيف دام لنصف ساعة مع الدكتور إياس استشاري أمراض الدم والسرطان عند الأطفال، يتركني سارحًا في فكرة أن أختص مثله.. لكن.. أخافُ أن يُثقلَ علي مشهد الأطفال وهم في حربهم مع هذا المرض الشرس..
- نوفمبر/٢٠٢١
“والله طيلة ال٦ سنوات ما قد شفت عدي بهذا الوضع”
- ديسمبر/٢٠٢١
أحمد يسافر إلى الظهران ليقضي بعض الوقت مع نفسه.. “شرايك نروح نجيبه؟ منتسلى ومنقابل البحر!” أقول لعبد الرحمن الذي قُسم له من الكفونة ما لم يُقسم لغيره..
“بخصوص اجتماع البودكاست الجاي.. عم فكر نحكيلهم القصة من أولها” أُخبر عبد الرحمن بشيء من التردد..
“ياخي الفريق هذا عظيم” عبد الرحمن بنشوة منتصر بعد الاجتماع..
- يناير/٢٠٢٢
العم قصي أبو زاهد يترجل إلى جواره سبحانه ويأخذ معه قبسًا من نور وجه أبي إلى الأبد.. “ليش ما تحضر البريميد مع زاهد؟” لقد بدأتَ هذه الحكاية أنتَ يا عم.. رحمك الله وطيّب ثراك..
- فبراير/٢٠٢٢
“أظن أنني أريد أكون طبيب عيون.. لم أشعر في حياتي بكل هذا الحماس اتجاه الطب!.“ أُخبرُ أبي في حماس.. “يعني لازم تقعد تعمل أبحاث ٣ سنوات قبل ما تقدم على اختصاص العيون مشان تنقبل؟” بابا يتأكد مما شرحتُ له.. “ثلاث سنوات على الأقل.. سأتقدم للاختصاص عندما أشعر أنني جاهز، ولنأمل أن الله سيسوق لي الأفضل” أجيبه.. يأخذُ نفسًا عميقًا ويقول: “بابا إنت أدرى بمستقبلك.. امشي ورا اللي بدك اياه والك مني الدعاء والدعم”..
“لكن.. هنالك أمرٌ آخر أريد أن أتبينه قبل أن أقرر” أخبره بعينين سارحتين..
- مارس/٢٠٢٢
“أشرِعوا الأبواب..”
- الخامس والعشرون من مايو/٢٠٢٢، ليلة التخرج
”انت هتعمل حاجة للكاميرا في المسيرة؟ ايه رايك تشاور بيدك؟” يقول لي عبد الرحمن ونحن على باب القاعة قُبيل المسيرة، أفكر في أنني سألوّح بيدي، أنثني عن هذه الفكرة في اللحظة التي أتذكر بها أن قبعة التخرج غير ثابتة وقد تقع في أي لحظة..
يُفتح باب القاعة..
تبدأ المسيرة..
بشت التخرج يتهدل من كتفي وأنا أنزل برفقٍ على الدرج، أجيل نظري في الحضور بحثًا عن أبي، أفكرُ في أنني يجب أن أسرع في خطوي كي لا أتأخر عن عبد الرحمن..
“بلادي بلادي منار الهدى”..
أصعد الدرجات المؤدية إلى المنصة..
“بقلك احنا هنوقف عالستيكر ولا هنجلس عليه؟” عبد الرحمن يسأل.. لم يخبرنا أحد ما إذا كان يجب علينا الوقوف على الستيكر أو الجلوس عليه، كيف فاتهم هكذا أمر؟ نتفق أننا سنقف على الستيكر..
ألمح أبي بين الحضور وهو يلوح لي.. ألوح له أنا الآخر..
أبحث عن أمي.. “لك ضليت طول الوقت عم أشّرلَك ما كنت تنتبه” تقول لي ماما بعد الحفل، أرد بأنه كان يجب عليها أن تسمع كلامي وتلبس فستانًا ورديا “هيك كان انتبهتلك مباشرة” نضحك..
غيث يجلس في الصف الذي خلفي “مستر بريزدنت شو حتعمل لما يجي اسمك؟” يسألني.. تبا لماذا لم أفكر في هذا من قبل؟ ربما سألوح بيدي؟ سأقرر حينها..
“عدي قصي سهوان مرتبة الشرف الأولى” في سنتي الثالثة تحداني أحدهم من خلف مكتبه على أنني لن أكون قادرًا على أن أتخرج بمرتبة شرف “بريزدنت وعاوز تتخرج مرتبة شرف؟ هههههه على جُستي (جثتي)” لم يكن الأمر مهمًّا لهذه الدرجة بالنسبة لي حتى أصبح تحديّا مع هذا الوغد.. أفكر في أنه كان من الأفضل أن يكون دافعي طيّبا أكثر.. لا يُهم..
“أقسم بالله العظيم أن أراقب الله في مهنتي”
اللهم في حماك وبرضاك وعلى هديك وهدي الحبيب المصطفى
“وأن أصون حياة الإنسان في كافة أدوارها، وفي كل الظروف والأحوال”
لُجين ابنة التاسعة تخبرني من على سريرها في مستشفى الفيصل أنها تريد أن تكبر لتصبح طبيبةً مثلي..
“باذلًا وسعي في استنقاذها من الهلاك والمرض والألم والقلق”
سلطان، مريض السرطان الذي أُخبر بمرضه منذ يومين فقط، يسألني في قلق: “عرس بنيتي بعد ست شهور، ألحق أحضره؟”
“وأن أحفظ للناس كرامتهم وأستر عورتهم وأكتم سرهم”
العم أبو مشاري يُلقي عليّ باعترافاتٍ تقود الفريق الطبي إلى تشخيصه، ويطلب مني أن لا أُخبر مشاري بها.. “بقولك شي بس لا تعلم مشاري…”.. “الله يلعن الشراب وأصحاب السوء”
“وأن أثابر على طلب العلم أسخره لنفع الإنسان”
العم محمد، ٧٣ سنة، يمسك بيدي بعدما وقفت لأفتح له باب العيادة ويسحبني برفق إلى الخارج.. “أنت تبي تصير دكتور؟”.. “والله إنكم تبردون القلب يا وليدي”.. “ارجع البيت حب يد أمك لا أوصيك”.. “كلامك يبرد القلب الله يفرحني فيك”.. يُلقي عليّ جُمله هذه ويُقبل يدي ويذهب..
“وأن أوقر من علمني وأعلم من يصغرني.. وأن أكون أخًا لكل زميل في المهنة متعاونين على البر والتقوى.. وأن تكون حياتي مصداق إيماني في السر والعلانية.. والله على ما أقول شهيد..”
ننتهي من القسم.. ننتظر بروتوكولات التصوير مع راعي الحفل.. يبدأ نوعٌ لذيذ من الفوضى على المسرح؛ يتعانق فيه أي خريجان بمجرد أن تتقابل أعينهم.. أبو مالك يضغط على يدي ويصرخ “تخرجنا أبو قصي تخرجنا والله”.. ألمح سي نور بين الحضور ومعه إبراهيم.. “ماني عرفان شو قول والله كتير مبسوط يا أخي” يمان بعينين دامعتين.. بابا يتصل ونتفق على أن يصعدوا للمنصة كي نتصور.. أشاهد بابا وماما وهما يشقان طريقيهما بين الحشود التي كانت تتهافت إلى المنصة.. بابا يعانقني.. “إنت ضي عيوني يا بابا”.. ماما تمسح دموعها وتدعو لي بالخير كله، جدتي تؤمم على دعائها وأختي لا يفوتها أن توثق كل هذا طبعًا.. أتفق مع بابا على أن يسبقوني إلى المطعم، “بس لا تتأخر” بابا ينبهني، “ايه شغلة نص ساعة بالكتير بلحقكن” أؤكد له.. خرجت من الجامعة بعدها بساعتين.. كان المستحيل أن أمشي خطوتين من غير أن أتوقف للمباركات والصور..
أخرج من القاعة لأرى أنس وهو ينتظرني “والله عم استناك بس مشان نتصور مع بعض” يخبرني ويطلب من أخيه أن يصورنا “خدلنا صورة تطالعني أحلى منه فيها”.. “حتطلع أحلى مني كيف ما كان ما تخاف” أرد.. نتبادل الضحكات ومن ثم أسأله عن والدته “خليني حسّن سمعتي شوي عندها” أخبره.. يضحك ويعلق أنها كانت تعرف أنه يمزح عندما قال لها عندما تقابلنا قبل ثلاثة أعوام بعد حفل لوحة العميد: “ليكي عالورد الأحمر اللي معاه أبصر مين عاطيه اياه”، لترمقني بعدها أم أنس بنظرات آسفة وتخبرني بأنه يجب علي أن لا أكون “ملَعْوَبْ”..
أدخل إلى بهو الجامعة.. أبحث عن عبد الرحمن فلا أجده.. ألمح براء من بعيد وأمشي باتجاهه.. نلتقط حوالي مئتي صورة.. براء لا يعجبه أي منها ويلومني لأنني ضيعت الكاميرا في هذا اليوم المهم.. دكتور أيمن يسحبني من يدي “خريجنا المفضل يصلح نتصور مع بعض؟”.. أضحك ونتعانق عناقًا طويلًا “أنا فخور فيك كما لم أكن فخورًا بأحد من قبل والله” يهمس في أذني..
أخرج من بهو الجامعة وأتوجه إلى المواقف.. أنظر إلى الساعة فأعي أنني تأخرت كثيرًا.. أصل إلى المطعم.. “عندك طاولة؟” تسألني الموظفة على الباب.. “ايه باسم قصي يمكن؟”.. تنظر لي كمن استوعب أمرًا للتو “Oh you are the doctor Congratulations! you look so young!” تقول لي وتشير بيدها كي أتبعها.. أسلم على أهلي وأعتذر على التأخير.. أتنهد كمن خرج لتوه من معركة.. يجتمع نُدُل المطعم جميعًا ويبدؤون بالتصفيق والغناء لي.. لابد من جراند جستشر من نوعٍ ما وإلا فلن يعرف النوم طريقًا إلى عيون أسرتي الجميلة..
- ما بقي من مايو/٢٠٢٢
أنام وأستيقظ وحفل التخرج يصدح في صالة البيت.. أسمع اسمي وهو ينادى عليه بالحفل سبعين مرةً في اليوم على الأقل.. إبراهيم يقفز عندما يرى نفسه في الفيديو لمدة ثانية ونصف ويبدأ بإخبار أصدقائه أنه أصبح مشهورًا على اليوتيوب..
تدوم هذه الطقوس لعدة أيام حتى يكتب الله أن تحذف الجامعة الحفل من اليوتيوب.. تسألني ماما ما إذا كنت قد حملت الفيديو فأضحك وأخبرها أنني وإن كنت قد حملته فلن أجني على نفسي وأشاركه معها..
بابا يمسك مبلغًا من المال ويضعه في يدي ونحن مجتمعون في مجلس القهوة “ما خليتنا نشتريلك شي هدية” يعاتبني.. أخبره بأنني لست بحاجة إلى شيء.. “طيب خود هدول، مو كان بدك تطلع برحلتك المجنونة عالبسكليت؟” يغمز لي.. لم ينسَ..
أمضي ما بقي من مايو وأنا أتلقى التهاني على الجوال من كل بقاع الأرض.. “الله يبارك فيك” “التخصص في أمريكا إن شاء الله” “هههه لا لسا بكير”.. الخ الخ.. أكتشف أن عندنا أقارب لا أعرف عنهم حتى.. بابا يطلب مني أن أنشر صورة للتخرج على الواتس، أرفض وأخبره بأنني لا أحب هذه الأمور..
- اليوم/٢٠٢٢
انتهيت من آخر اختبار لي في الكلية منذ أسبوع تقريبًا..
هذه الليلة الأولى التي أقضيها في البيت منذ ذلك الحين..
ماما تخبرني بأنني أسرحُ كثيرًا وتسألني عما إذا كان هنالك أمر ما.. أبتسم وأقول لها أن كل شيء على ما يرام..
أفكر في أنني أريد أن أكتب ترتيلة ثم أغير رأيي..
أحيانًا أفكر فيما إذا كنت قد اتخذت قرارًا صحيحًا عندما درست الطب.. لم يكن المشوار شاقًا على الإطلاق.. كان طويلًا ربما ولكنه لم يكن شاقًّا.. أعود لنفس السؤال..
أنظر إلى وجه بابا وقد خاط الدهر اثنا وخمسين عامًا عليه.. أتذكر فرحه أمام أعمامي وهو يروي عليهم تفاصيل الحفل ومباهاته بي عند جيران المسجد وهو يخبرهم أنني قد أصبحت طبيبًا..
ماما ما زالت إلى اليوم تطلب فيديو التخرج مني وتهددني بأنها ستحصل عليه من أم براء أو حمزة.. وإبراهيم ما زال إلى اليوم يتحدث عن ظهوره على اليوتيوب ومشاكل الشهرة التي أتى بها ذاك الظهور عليه..
أفكر في الأصدقاء.. في الذكريات.. وفي الليلة الأولى لتساقط النوارس والتراتيل التي تلتها..
ثم أعود لأسأل نفسي نفس السؤال..
عما إذا كان قرار الطب صائبًا..
هذه المرة لا يأخذ الأمر مني طويلًا حتى أعرف الجواب..
“من أجلك، ألفُ مرةٍ ومرة..”

لك اييييييي شو هالنص الدافي والقريب من القلب يا دكتور 😍😍😍
وشو هالسريالية تاعت النوارس وتساقط النوارس 😂
إعجابLiked by 1 person
لا تحاول أبو حميد من أسبوع ألاحقه يشرح لي سالفة النوارس ومعيي
إعجابإعجاب
الله يشغلنا بطاعته بس
إعجابإعجاب
“ماذا نكون نحن سوى بساتينٍ من الذكرياتِ على أي حال؟ ”
“أنا أكتبُ فقط عندما تتفجر الكلمات عيونًا في صدري، وهذا التأريخ الذي أحاولهُ هنا جداولُ الماءِ التي تشهد على تلك العيون..”
البداية وحدها تستحق وقفة تأمل!
لا أعتقد أن أحدًا سطَّر هذه الرحلة بنفس الروعة التي قمت بها يا صديقي.
فخورٌ بما أنجزت، وأتمنى لك وقفاتٌ تأملية أُخرى تشاركنا إياها.
رحم الله من ذكرت ممن توفتهم المنيّة، ورحمنا جميعًا.
إعجابLiked by 1 person
أنا ونَصي المتواضع سعداء على منزلتنا عندك والله يا خليفة!
امتنان كبير للرحلة لأنها جمعتنا.. وما زلت على انتظاري القديم لكتاباتك!
إعجابإعجاب